إنّ فهم التمييز الجوهري بين نموذج الهيمنة ونموذج المقاومة يُعدّ شرطًا أساسيًا لأي تفسير عميق للتطورات المستقبلية في غرب آسيا والعالم. فالولايات المتحدة تُجسّد، من خلال استراتيجياتها السياسية والعسكرية والثقافية، نموذج الهيمنة — لغةً تستهدف امتلاك العالم والسيطرة عليه. وفي المقابل، وضعت إيران نفسها ضمن نموذج المقاومة، متحدثةً بلغةٍ تعبّر عن أسلوبٍ مختلف للوجود في العالم؛ أسلوبٍ يرتكز على السيادة والتحدي في مواجهة القوى المهيمنة، والتضامن مع الشعوب المظلومة.
بقلم علي كاكادزفولي، باحث في علم الاجتماع السياسي
إن تحليل فاعلية الدول مهمة بالغة التعقيد، ولهذا السبب، غالبًا ما تخضع للاختزالية والتبسيط المفرط في وسائل الإعلام، حيث تُقارن الإجراءات العسكرية، وبناء التحالفات، والضغوط الاقتصادية ضمن إطار تحليلي واحد، مجردٍ من جذورها الفلسفية وأسسها الأنطولوجية. يؤدي هذا النهج إلى سوء فهم عميق، خاصة في استيعاب الفاعلية الدولية والسلوك السياسي لجمهورية إيران الإسلامية في علاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية. ففي حين قد تحمل لغة الصراع والفاعلية لدى هذين اللاعبين تشابهات سطحية في بعض الأحيان، فإن جوهرها ومعناها وأهدافها النهائية وأساليب تنفيذها تنبع من رؤيتين عالميتين ونموذجين فكريين مختلفين تمامًا. فلغة أمريكا هي لغة قوة مهيمنة تسعى للحفاظ على هيمنتها وتوسيعها؛ وعلى النقيض من ذلك، فإن لغة إيران هي لغة قوة مناهضة للهيمنة تهدف إلى خلق الردع وتحقيق نموذج للمقاومة. تسعى هذه المقالة إلى تتبع أصول هذه الفوارق الجوهرية من خلال دراسة التطورات الإقليمية على مدى العقدين الماضيين.
بناة الوضع الراهن مقابل مهندسي النموذج الجديد
إن الجذر الأساسي للاختلاف في لغة الفاعلية بين إيران والولايات المتحدة يجب البحث عنه في أسسهما الفلسفية. تنبثق الفاعلية الأمريكية من تقاليد ليبرالية-رأسمالية ومفهوم “الاستثنائية الأمريكية”. هذا المنظور، المتجذر في فكرة “القدر المتجلي”، يمنح الولايات المتحدة مهمة تاريخية لإدارة العالم وقيادته. ومن هذه الزاوية، يُعتبر النظام الدولي فضاءً فوضويًا يتطلب قوة منظِّمة (قوة مهيمنة) لتأمين المصالح والأمان — وإن كانت المصالح الأمريكية في جوهرها. وبالتالي، فإن لغة فاعليتها مادية، موجهة نحو الربح وقائمة على القوة من أجل السيطرة. في هذه اللغة، يعني الاستقرار الحفاظ على الوضع الراهن وهيكل يضمن التفوق الأمريكي.
في المقابل، تنبع لغة فاعلية الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ ثورة 1979 من رؤية عالمية إلهية وشيعية، تلعب فيها مفاهيم مثل العدالة ومقارعة الظلم (أو الاستكبار العالمي) ودعم المستضعفين دورًا مركزيًا. هذه الفاعلية لا ترى النظام الدولي فوضويًا، بل تراه ظالمًا — نظامًا تسحق فيه قوة مهيمنة (الاستكبار) حقوق الأمم الأخرى. لذلك، فإن لغة فاعلية إيران مثالية، متمحورة حول المعنى، وقائمة على القوة من أجل المقاومة. الاستقرار في هذا الخطاب يعني تحقيق توازن عادل وكسر احتكار القوة، وليس قبول نظام الهيمنة القائم. هذا الاختلاف الأنطولوجي يعيد إنتاج نفسه عبر جميع مستويات التحليل الأخرى.
الهيمنة العالمية مقابل الردع الإقليمي
تحدد هذه الازدواجية في الرؤية العالمية بطبيعة الحال أهدافًا استراتيجية متباينة. فالهدف الاستراتيجي الرئيسي للولايات المتحدة هو الحفاظ على نظام عالمي أحادي القطب وإدارته ومنع صعود أي منافس جاد. يُعرَّف الأمن القومي الأمريكي خارج حدوده الإقليمية، ليمتد إلى أبعد بقاع الأرض. أي منطقة لديها القدرة على تحدي الهيمنة الأمريكية تعتبر تهديدًا أمنيًا. ومن هنا، فإن فاعلية الولايات المتحدة استباقية وهجومية بطبيعتها، حتى عندما تتستر بخطاب الدفاع أو تعزيز الديمقراطية. فدفاعها هو دفاع عن موقعها المهيمن وليس عن سلامة أراضيها.
على الجانب الآخر، يتمثل الهدف الاستراتيجي لإيران في ضمان البقاء في مواجهة التهديدات الوجودية وخلق عمق استراتيجي لدفاعها. على عكس الولايات المتحدة، فإن الأمن القومي الإيراني دفاعي في طبيعته ويستند إلى إبعاد التهديدات عن حدودها. إن تشكيل محور المقاومة في المنطقة ليس محاولة للتوسع الإقليمي أو التصدير الأيديولوجي بالمعنى الكلاسيكي، بل هو استراتيجية لخلق درع دفاعي ضد الضغوط المتزايدة من النظام المهيمن وحلفائه الإقليميين وخاصة الكيان الصهيوني. إن فاعلية إيران تفاعلية — رد فعل ذكي لعقود من الضغط والعقوبات والتهديدات العسكرية. بينما تسعى الولايات المتحدة للسيطرة على البيئة، تسعى إيران لتأمين بيئتها المحيطة.
تفكيك الدولة مقابل تقويتها: نموذجان للتدخل
تتجلى أعمق طبقات الاختلاف من خلال تحليل الإجراءات التي قد تبدو متشابهة على السطح:
- التحالفات: التحالفات الأمريكية (مثل الناتو أو التحالفات المخصصة) هي تحالفات هرمية، ذات هيكل “مركز-أطراف” تكون فيه واشنطن هي صانع القرار النهائي. هدف هذه التحالفات هو استعراض القوة في مناطق بعيدة وتوزيع تكاليف الهيمنة. أما محور المقاومة، الذي تلعب فيه إيران دورًا محوريًا، فهو شبكة أفقية ومرنة وإيديولوجية. يتشكل هذا المحور على أساس عدو مشترك وهدف مشترك (مواجهة النفوذ الأمريكي والإسرائيلي)، ويمتلك أعضاؤه (من الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية) استقلالية عملياتية كبيرة. هذا النموذج ليس مصممًا لاستعراض القوة، بل لتوزيع المقاومة وخلق ردع غير متكافئ.
- التدخل العسكري: كانت التدخلات العسكرية الأمريكية في دول مثل العراق وأفغانستان تهدف إلى بناء الدولة القومية على أساس نموذج ليبرالي وتغيير البنية السياسية بشكل جذري. نُفذت هذه التدخلات باستخدام قوة عسكرية تقليدية ضخمة، وكانت نتيجتها انهيار الدول، وخلق فراغات في السلطة، وصعود جماعات إرهابية مثل داعش. في المقابل، كان الوجود الاستشاري الإيراني في دول محور المقاومة، خاصة سوريا والعراق، بدعوة رسمية من حكوماتها وبهدف الحفاظ على وحدة أراضيها ومواجهة الإرهاب التكفيري. لم تكن استراتيجية إيران تغيير الأنظمة، بل تقوية الدول القائمة ضد التهديدات المشتركة. استندت هذه الفاعلية إلى الحرب غير المتكافئة، وتمكين القوى المحلية، ومنع انهيار الدولة — وهو النقيض التام لنهج تفكيك الدولة الذي اتبعته الولايات المتحدة.
- التفاعل مع الشعوب: تتبع فاعلية الولايات المتحدة وإيران منطقين متعارضين: الاحتواء والإلهام. تستخدم الولايات المتحدة نهجًا فوقيًا وأداتيًا، حيث تنظر إلى الشعوب ككائنات يجب إدارتها والسيطرة عليها ضمن إطار نظامها المهيمن. من خلال الحكومات والرافعتين المزدوجتين للإغراء (وعد التنمية والحلم الأمريكي) والإكراه (العقوبات والتهديدات)، تسعى الولايات المتحدة إلى التجانس الثقافي والسيطرة السياسية على الشعوب. على النقيض تمامًا، فإن نموذج الجمهورية الإسلامية الإيرانية هو تفاعل أفقي وخطابي وتصاعدي من القاعدة إلى القمة، حيث تُخاطَب الشعوب كذوات أصيلة يجب إيقاظها وتمكينها. فبدلاً من تصدير نمط حياة، تروج إيران لنموذج المقاومة والاعتماد على الذات، ساعية من خلال الإلهام المباشر إلى إنشاء شبكة من الدول المستقلة والقوية القادرة على تقرير مصيرها.
- مغالطة مصطلح “الوكيل“: إن إطلاق مصطلح “الجماعة الوكيلة” على حلفاء إيران الإقليميين ينبع من خلط مبسط مع النموذج الأمريكي وهو خطأ تحليلي جوهري. يقوم النموذج الأمريكي على “المقاولين بالوكالة”: وهم جماعات غالبًا ما تفتقر إلى جذور شعبية عميقة وتُستخدم كأدوات مؤقتة وخاضعة للسيطرة في علاقة عمودية قائمة على الصفقات لخدمة مصالح واشنطن قصيرة المدى، ويمكن التخلي عنها في أي وقت. أما نموذج إيران، فيقوم على “الحلفاء الاستراتيجيين”. هذه الجماعات هي حركات أصيلة ذات قواعد اجتماعية قوية في مجتمعاتها، وترتبط بإيران برباط أفقي قائم على التوافق الإيديولوجي ضمن خطاب المقاومة. وهي تمتلك استقلالية عملياتية وهياكل مستقلة لصنع القرار. في هذه الشبكة، لا تلعب إيران دور السيد المتحكم، بل دور الحليف المُمكِّن.
الخاتمة
يمكن القول إن المواجهة بين إيران والولايات المتحدة هي أكثر من مجرد صراع استراتيجي بين دولتين؛ إنها مسرح لصدام منطقين وجوديين ونموذجين لتنظيم العالم. فمن جانب، يقف منطق الهيمنة الحسابية، الذي يعرّف القوة من منظور السيطرة المادية والإخضاع الهيكلي، ويعتبر أي عمل مستقل بمثابة زعزعة للاستقرار. ومن الجانب الآخر، هناك منطق المقاومة صانعة المعنى، التي تجد القوة في القدرة على الإلهام، وفي استقلالية القرار، وفي تشكيل الإرادات الجماعية لإعادة تعريف العدالة.
ويتجلى الجانب الأكثر أهمية في هذا التمييز في عدم تماثل الإدراك. فالقوة المهيمنة، بحكم طبيعتها المرجعية لذاتها، غير قادرة على استيعاب العمق الخطابي والجذور الهوياتية لفاعلية المقاومة، فتختزلها في تسميات مبسطة مثل الإرهاب أو الحرب بالوكالة. إن سوء الفهم هذا بالذات يشكل نقطة ضعفها الاستراتيجية وهو سر صمود النموذج المنافس وتوسعه. لذلك، فإن مستقبل هذه المواجهة لن يحدد المصير الجيوسياسي لغرب آسيا فحسب، بل سيكون أيضًا بمثابة اختبار لجدوى وفعالية نموذج بديل في العلاقات الدولية — نموذج يثبت أنه في القرن الحادي والعشرين، يمكن لقوة الخطاب وشبكة الإرادات أن تكون صانعة للتاريخ تمامًا، إن لم يكن أكثر، من قوة النيران وهرميات القوة. إن فهم التمييز التأسيسي بين نموذج الهيمنة ونموذج المقاومة هو الشرط المسبق لأي تفسير عميق للتطورات المستقبلية في غرب آسيا والعالم. فلغة أحدهما هي لغة امتلاك العالم؛ ولغة الآخر هي لغة نمط مختلف من الوجود في العالم.